غالبية الطفرات الحاصلة في كوفيد- 19 تعتبر طفرات بسيطة غير مهمة ولا تؤثر على الطبيعة المعروفة لهذا الفايروس من حيث شدة المرض الذي يحدثه أو سرعة انتشاره.
منذ أن أعلنت الصين عن وباء كورونا الجديد كوفيد – 19، واصفة صيغته الجينية الأصلية، والطفرات والتحورات الجينيّة ملازمة لهذا الفايروس حيث وصلت إلى عدد كبير! رغم هذا لم يكن سابقا بين هذه الطفرات طفرة جينيّة واحدة مؤثرة وخطيرة تسترعي الانتباه والحذر.
تحدث هذه التحوّرات في تركيبة الفايروس المستندة على مواقع الأحماض الأمينية المكونة لبروتيناته الموجودة على بروزات الفايروس المعروفة، التي يستطيع الفايروس من خلالها الولوج إلى داخل خلايا الجسم للإنسان والحيوان على حد سواء. هذه الطفرات الجينية هي ليست خصوصية لكوفيد – 19 فحسب، إنما هي حالة تتميز بها الفايروسات الأخرى بشكل عام، حيث ربما تكون الطفرات فيها أكثر تكرارا عما عليه الحال في فايروس كورونا. فالتحورات التي تحصل في الأنفلونزا الموسمية تصل إلى ضعف عدد التحورات في كوفيد – 19، بينما تصل إلى أربعة أضعاف في فايروس متلازمة نقص المناعة المكتسبة “الإيدز” عند حسابها لفترة زمنية ثابتة في الحالتين، حسبما جاء ذلك في تصريحات أخصائية الأوبئة الجزيئية إيما هودكروفت من جامعة بازل السويسرية.
غالبية هذه الطفرات الحاصلة في كوفيد – 19 تعتبر طفرات بسيطة غير مهمة ولا تؤثر على الطبيعة المعروفة لهذا الفايروس من حيث شدة المرض الذي يحدثه أو على مستوى سرعة انتشاره. أهم الطفرات المحسوسة والمتميزة والمنتشرة هي الطفرة التي حصلت في شهر فبراير من هذا العام في أوروبا التي تمخضت عن فايروس مختلف عن الفايروس الأصلي المكتشف في الصين، حيث تبادل الحمض الأميني المسمى “الأسبيريت” مع الحمض الأميني “الجلايسين” المواقع، فأخذ أحدهما موقع الآخر في تركيبة البروتينات المؤسسة فتكون الخط الفايروسي المسمّى “D614G”. انتشر هذا الخط بسرعة فائقة في أوروبا ثم امتد إلى باقي دول العالم، حيث حذر أخصائي علم الفايروسات الدكتور ديفيد مونتفيوري في منشوراته الطبية من أن تحورات فايروسات كوفيد – 19 قد تزيد من سرعة انتشار هذا الفايروس بسبب زيادة قدرته على العدوى بين الناس. بعد العطلة الصيفية في إسبانيا حصلت موجة فايروسية جديدة في أوروبا اكتشف إثرها وجود طفرة جديدة للفايروس أنتجت الخط الفايروسي “A222V”.
ليس كل الطفرات التي تحصل لدى الفايروسات خبيثة وخطيرة حيث أن قسما من هذه الطفرات قد تكون حميدة، حيث تضعّف الفايروس سواء على صعيد شدة العدوى وسرعة الانتشار أو على صعيد الأثر المرضي له وخطورته على صحة الإنسان. في حين قد تكون الطفرات خطيرة ومؤثرة حينما تصنع في الفايروس خطوطا خبيثة سواء أكان ذلك يتعلق بالصحة ودرجة المرض وخطورته أم بسرعة انتشار الوباء وتفشيه. ويزداد خبث الفايروس وتحوره إلى صنوفه الأكثر إيذاء حينما يصبح قادرا على الإفلات من المضادات الجسمية الطبيعية أو المكتسبة حيث يستطيع خداعها ويجعلها غير قادرة على تمييزه واحتوائه! قد تحصل التحوّرات الفايروسية الخبيثة في حالات متعددة منها:
أولا، حينما يصيب الفايروس من يملكون مناعات ضعيفة فيتحدّى أجهزتهم المناعية ويحاول تغيير صيغته الجينية، فيخرج منتصرا بصيغة جينية جديدة تكون مصدر عدوى للآخرين. ثانيا، عند بعض المرضى الذين يعالجون بالمضادات الجسمية الصناعية أو الطبيعية المأخوذة من مرضى متعافين. ثالثا، حينما يعالج الفايروس بمضادات الفايروسات التي هي غير كافية للتصدي له مثل دواء ريميديسفير. رابعا، حينما يصيب الفايروس الحيوانات ويتحوّر داخل أجسامها فيكتسبه الإنسان متحوّرا منها.
في الأسابيع الأخيرة حصلت موجة فايروسية وارتفاع في عدد إصابات كوفيد – 19 في المملكة المتحدة وعلى وجه الخصوص في المناطق الجنوبية الشرقية من المملكة، أفضت إلى بحث مركز حول أسباب ذلك. بيّنت الاستقصاءات والدراسات الوبائية وجود طفرة جديدة في تركيبة كوفيد – 19 الجينية أنتجت خطا فايروسيا جديدا يحوي تغيّرات جوهريّة في تسلسل الأحماض الأمينية المشتركة في تركيبة بروتينات البروزات الموجودة على جسم الفايروس. هذه التغيرات حصلت على الأقل في 17 موقعا من مواقع الأحماض الأمينية الصانعة لبروتينات الفايروس التي تبيّن من خلالها حصول فقدان جزء من البروزات البروتينية للفايروس حيث يعتقد بأن هذا التحوّر قد يكون نتج داخل جسم فصيل من حيوانات من فصيلة العرسيات وبالخصوص ابن عرس “المينك” الأوروبي. تبقى هذه النظرية في ساحة البحث والتأكيد. لكن هناك تحورات أخرى ألخّصها جميعا في الخطوط الفايروسيّة التالية: deletion 67-70 and deletion 144، A570D، P681H، T716I، P681H، S982A، D118H، D614G، N501Y، حيث سميّت الصيغة الجينية النهائية لهذا الفايروس المتحور الجديد بـSARS-COV-2 VUI 2020/12/01، وهي تعني “فايروس متحور رقم 01 تحت الفحص لسنة 2020 شهر ديسمبر”. يتميز هذا الخط الفايروسي الجديد بقابلية الفايروس القوية فيه على الالتصاق والدخول في خلايا جسم الإنسان بسبب قوة “مجال ربط المستقبلات” الموجود على سطح البروزات البروتينية في هذا الفايروس. يتميز هذا الفايروس المتحور الجديد بسرعة انتقال المرض وبشدة العدوى إذ تفوق بـ70 في المئة من درجة العدوى المعروفة لفايروس كوفيد – 19 الأصلي.
رغم أن المعلومات المتحصلة عن تأثيرات هذا الفايروس المتحور الجديد لا تشير إلى أن هذا الفايروس له تأثير مرضي أقوى من الفايروس السابق، غير أنه يظل مقلقا ويدعو للحذر حيث يعني بأن انتشار العدوى وحصول المرض سيكون شبه مضاعف مما يعني ازديادا مطردا في عدد المرضى ولعدد الوفيات جراء الإصابة، مما سيولد ضغطا هائلا على المستشفيات وعلى الكادر الصحي الذي قد لا يتمكن من سد الحاجة واستيعاب الحالة! كما أن سرعة انتشار الفايروس قد تكون مؤشرا مقلقا لانتشار هذا الفايروس خارج المملكة المتحدة حيث شخصت تسع حالات منه في الدنمارك وأربع حالات في بلجيكا وحالة في كل من هولندا وأستراليا، مما يلفت النظر إلى قابلية انتشاره إلى سائر دول العالم الأخرى. أدى هذا الاكتشاف إلى فرض حظر على انتقال الأفراد من وإلى بريطانيا في العديد من دول العالم.
أسئلة خائفة أخرى تطرح نفسها في ما يخص سلوكيات الفايروس المتحور من حيث كيفية التعامل معه علاجيّا وتشخيصيّا ووقائيّا! فهل العلاج بالمضادات الجسميّة الطبيعية المستخرجة من بلازما المرضى المتعافين أو تلك الصناعية المستخدمة في العلاج ستكون فعالة ضد هذا الفايروس المتحوّر؟ وهل ستتغير وسائل التشخيص بتغيّر الصيغة الجينية لهذا الفايروس؟ وهل المصاب بالفايروس الأصلي لكوفيد – 19 سيقاوم الإصابة بهذا الفايروس الجديد في فترة تمتّعه بالمناعة؟ وأخيرا وهو الأهم، هل اللقاحات المزمع استعمالها ستكون ذات فاعلية عالية وكفاءة لصد الفايروس المتحور؟
لسنا في مرحلة إفلات كورونا من قبضة اللقاح ولكن يبقى احتمال وقوعها واردا إن لم تتم السيطرة الوافية على الفايروس المتحور
رغم أن التغيرات الحاصلة في تركيبة البروتينات في الفايروس الجديد كبيرة نسبيّا، وخصوصا حصول تغيرين منها في الجزء المعروف باسم “مجال ربط المستقبلات” الذي يربط الفايروس بخلايا الجسم ويمهد لولوجها، إلا أنه من المتوقع أن تكون اللقاحات المطروحة على الساحة قادرة على مواجهة هذه الفايروسات الجديدة ومعادلتها واحتوائها. اللقاح عادة يتعامل مع عدة أماكن مختلفة في البروزات البروتينية التي يلج من خلالها الفايروس إلى خلايا الجسم. فالتحويرات التي حصلت في بروزات الفايروس الجديد تبقى محدودة وتبقى في هذه البروزات أجزاء أخرى غير متحورة يستطيع اللقاح التعامل معها. فوق هذا وذاك، فإن الدراسات بدأت لمعرفة فعالية وتأثير اللقاح المستخدم على السلالة الجديدة من الفايروسات من خلال التجارب المخبرية، كما أن الدراسات السريرية ستخبرنا بالأمر اليقين فيما لو يؤثر الفايروس المتحور على مواد التشخيص المتبعة وعلى طرق العلاج المستعملة ضد الفايروس سابقا؟
مهما يكن من أمر، فإن مضى هذا الفايروس الجديد بالتحور أكثر مما عليه الحال الآن، بحيث تتبادل الأحماض الأمينية المتواجدة في بروتينات بروزاته مواقعها بشكل أكبر، فقد يؤدي هذا إلى تبدّل كبير في الخارطة الجينية الأصلية للفايروس. يعتبر عندها هذا التحور خطوة خطيرة إلى مرحلة معقدة ممكنة الحصول يستطيع من خلالها الفايروس الإفلات من قبضة اللقاح وعدم تأثّره به من جهة، والى إفلاته أيضا من وسائل التشخيص المتبعة وعلاجات الأجسام المضادة المستخدمة، إضافة إلى إمكانية الإصابة به رغم وجود إصابة سابقة بالفايروس الأصلي حديثا من جهة أخرى. نحن لسنا في هذه المرحلة الخطيرة اليوم ولكن يبقى احتمال وقوعها واردا إن لم تتم السيطرة الوافية على هذا الفايروس المتحوّر الجديد والتخلص منه مبكرا قبل انتشاره وتحوّره مجددا إلى صيغ معقدة يصعب التعامل معها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق