*السلفية وإشكالية الجمود التاريخي: مقاربة نقدية*
ناجي الغزي/ كاتب سياسي
في مقال موسع نشرته مجلة “الإصلاح التونسية” في عددها رقم :211 لعام 2025، تحت عنوان “*السلفية حالة متفشية في كل الأديان والمذاهب*”، قدم المفكر الإسلامي الدكتور عبد الجبار الرفاعي تحليلاً معمقاً لظاهرة السلفية، متناولاً تأثيراتها الفكرية والدينية.
في هذا المقال، يسلط الرفاعي الضوء على سمة الجمود الفكري والاجتماعي التي تميز السلفية كمفهوم فكري وسلوك جماعي، مشيراً إلى كيفية تأثير تمسكها بالماضي ورفضها للتغيير في تحجيم تطور الأفراد والمجتمعات.
يقدم الرفاعي رؤية نقدية عميقة لمفهوم السلفية بوصفها ظاهرة فكرية تتجاوز حدود الدين الواحد، لتشمل الأيديولوجيات السياسية والفكرية بمختلف تنوعاتها. ويرتكز على عدة محاور أساسية في تحليله، تتمثل في الطبيعة اللاتاريخية للسلفية، والانغلاق العقائدي، والتوظيف السياسي والروحي للخطاب الديني، وتأثير ذلك على بنية المجتمعات الحديثة.
ويؤكد الرفاعي أن السلفية، بمختلف أشكالها، تمثل انقطاعاً عن سياقات التطور التاريخي، إذ تسعى إلى إعادة إنتاج الماضي في الحاضر، مما يؤدي إلى تعطيل ديناميكية المجتمعات الإنسانية.
كما يشبه المجتمعات السلفية بمجتمع "بلد العميان" الذي صوره الكاتب والروائي البريطاني "هربرت جورج ويلز" حيث يصبح العمى هو القاعدة والمعيار، في حين ينظر إلى البصر بوصفه انحرافاً. هذه الاستعارة تعكس بعمق كيف تؤدي السلفية إلى بناء واقع مغلق، يرى في أفكاره اليقينية حقيقة مطلقة، بينما يقصي كل ما يخالفها.
ويشير الرفاعي إلى أن السلفية تقوم على تعطيل العقل الفردي، حيث يتنازل الإنسان عن قدرته على التفكير النقدي لصالح تفسير مغلق للنصوص الدينية. وهنا يمكن استحضار مقاربة المفكر المغربي محمد عابد الجابري الذي ميز بين "العقل البرهاني" القائم على التحليل النقدي و"العقل البياني" الذي يعتمد على التفسير الحرفي للتراث.
ويركز الرفاعي على الآثار السيكولوجية لهذا الانغلاق، حيث يرى أن السلفي يشعر بالاصطفاء والتميّز المطلق، مما يجعله غير قادر على الانفتاح على المختلف، ويعزز من حالة الاستقطاب المجتمعي. هذا الشعور بالاصطفاء يتجسد في الميل إلى تحريم الفنون والاحتفاء بالمحظورات، وهو ما يعكسه توسع دائرة الحرام بمرور الزمن.
ويبرز الرفاعي في مقالته كيف أن الخطاب السلفي لم يكن يوماً منفصلًا عن الصراعات السياسية والسلطوية، حيث يتم توظيفه لتعزيز النفوذ الروحي والسياسي. هذا يتجلى في الربط بين توسيع المقدس وتوسيع حدود السلطة، وهي فكرة تتلاقى مع أطروحات ميشيل فوكو حول العلاقة بين المعرفة والسلطة.
إن الربط بين التوسع في التحريم وبين آليات السيطرة السياسية والدينية يضيء جانباً مهماً في نقد السلفية، حيث لا يكون التحريم مجرد موقف ديني، بل يصبح أداة لضبط المجال العام، وتحجيم قدرة الأفراد على التفكير الحر واتخاذ القرار المستقل.
ويختتم الرفاعي مقاله بتأكيد أهمية إعادة النظر في فهم الدين بوصفه كياناً حياً يتفاعل مع التاريخ وظروفه، مشيراً إلى ضرورة التمييز بين المجالات المختلفة (الدين، الفلسفة، العلم، الفن...) لضمان عدم تداخلها بشكل يؤدي إلى إفسادها. هذا الطرح يعكس نزعة تحديثية تدعو إلى التحرر من القراءة الحرفية للنصوص الدينية، والانفتاح على المناهج الحديثة في التأويل.
رأي الناقد: النقد الذي يطرحه الرفاعي للسلفية يتجاوز كونه نقداً دينياً، بل نقداً لمنظومة فكرية تعيق التطور الاجتماعي والثقافي. فالتحليل الذي يقدمه الرفاعي يسلط الضوء على العلاقة المعقدة بين الفكر الديني، والسياسة، والمجتمع، ويوضح كيف أن الجمود الفكري لا يشكل فقط خطراً على الدين نفسه، بل على تطور المجتمعات ككل.
إذا كانت المجتمعات الإسلامية ترغب في الخروج من مأزقها التاريخي، فإن عليها تبني رؤية نقدية للدين، تنأى به عن التوظيف السياسي والأيديولوجي، وتعيد له مكانته كفضاء للروحانية والقيم الأخلاقية، بدلاً من أن يكون أداة للهيمنة والسيطرة.
الصورة في الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقي مع المفكر الاسلامي الدكتور عبد الجبار الرفاعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق