بين ماسك وويتكوف
رياض الفرطوسي
في كل مرحلة من التاريخ، يبرز قائد يعيد تشكيل المشهد السياسي وفق رؤيته الخاصة، يفرض إيقاعه على الأحداث، ويجبر العالم على مجاراته أو مواجهته. واليوم، لا شك أن دونالد ترامب هو الشخصية التي تلقي بظلالها الثقيلة على السياسة الأمريكية والدولية، ليس بصفته رئيساً سابقاً فحسب، بل كرئيس حالي يقود الولايات المتحدة بأسلوب استثنائي يعكس تحولات كبرى في بنية السلطة ونمط القيادة. فهو لا يمثل مجرد امتداد لحقبة مضت، بل يعيد تعريف الرئاسة الأمريكية وفق منظور يتجاوز التقاليد، ويقترب أكثر من منطق رجل الأعمال الذي يرى في الدولة مشروعاً قابلاً للإدارة بأدوات السوق.
تأثير ترامب لا يقتصر على شخصه فقط، بل امتد ليشمل دائرة واسعة من الشخصيات التي استلهمت نهجه، وأصبحت تدور في فلكه. ومن بين هؤلاء، برز اسمان بشكل خاص: إيلون ماسك وستيف ويتكوف. الأول يمثل القوة الاقتصادية الجديدة التي تسعى لإعادة تشكيل مفهوم الدولة، والثاني بات فجأة في قلب النزاعات الدولية الكبرى، مكلفاً بمهمة التفاوض في حربي غزة وأوكرانيا، رغم افتقاده لأي خبرة دبلوماسية أو خلفية سياسية تقليدية.
فما الذي يعنيه هذا التحوّل في بنية السلطة الأمريكية؟ وهل نحن بصدد ولادة نمط جديد من القيادة العالمية، قائم على سلطة السوق بدلاً من سلطة الدولة؟ وكيف يمكن مقارنة نهج رجال الصفقات مثل ويتكوف، برجال الدولة التقليديين الذين صاغوا مفاصل النظام العالمي في القرن العشرين؟
عندما نتحدث عن فن التفاوض في السياسة الأمريكية، لا يمكننا تجاهل اسم هنري كيسنجر، الرجل الذي أعاد تشكيل العلاقات الدولية خلال السبعينيات. كان كيسنجر بارعاً في استغلال التناقضات بين القوى العظمى، فقد نجح في تحقيق انفراجة تاريخية مع الصين عبر "دبلوماسية البينغ بونغ"، كما أدار الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بذكاء يحسد عليه، واضعاً أسس سياسة "الاحتواء" التي ضمنت التوازن بين القوتين العظميين.
أما جيمس بيكر، فقد كان رمزاً لدبلوماسية الحزم. في فترة نهاية الحرب الباردة، كان بيكر مهندس توحيد ألمانيا، وعرف كيف يوازن بين المخاوف الأوروبية والأطماع السوفيتية، مُحققاً واحداً من أعظم الإنجازات الدبلوماسية في القرن العشرين. وفي الشرق الأوسط، لعب دوراً رئيسياً في تشكيل التحالف الدولي ضد العراق بعد غزو الكويت عام 1990، حيث تمكن من إقناع العديد من الدول العربية بالانضمام إلى التحالف الذي قادته الولايات المتحدة.
اليوم، تختلف المعادلة. لم تعد الولايات المتحدة تعتمد على مهندسي السياسة الخارجية الكلاسيكيين، بل تفتح المجال لرجال الأعمال والمستثمرين ليقودوا دفة التفاوض وصنع القرار. ويبرز ستيف ويتكوف كنموذج لهذا التحوّل الجذري. فهو لم يأتِ من وزارة الخارجية، ولا من مجلس الأمن القومي، بل من عالم العقارات والصفقات المالية. ورغم ذلك، أوكلت له إدارة التفاوض في أشرس نزاعات العصر: حرب غزة والحرب الأوكرانية.
في غزة، لم تفلح جهود ويتكوف في تحقيق أي تهدئة. بل على العكس، ازداد الصراع دمويّة، وبدت الولايات المتحدة وكأنها فقدت أي نفوذ حقيقي على الأطراف المتصارعة. فالتعامل مع ملف بهذا التعقيد يتطلب فهمًا عميقاً للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وهو أمر لم يظهر أن ويتكوف يمتلكه. ومع غياب أدوات الدبلوماسية التقليدية، تراجعت واشنطن إلى موقع المتفرج، ما زاد من تعقيد المشهد وأضعف قدرة المجتمع الدولي على التدخل الفاعل.
في أوكرانيا، حاول ويتكوف الضغط على كييف للانسحاب من بعض المناطق مثل إقليم كورسك، ودفعها نحو هدنة مع موسكو، لكن روسيا لم تُبدِ أي استعداد للتنازل، بل اكتفت فقط بتجنب استهداف محطات الطاقة، مما يعني أن المفاوضات لم تحقق أي نتائج تُذكر. في هذا السياق، يرى محللون أن الإدارة الأمريكية تحاول من خلال ويتكوف اختبار نموذج جديد لإدارة الصراعات، يقوم على منطق المفاوض الاقتصادي وليس الدبلوماسي، لكن النتائج حتى الآن تشير إلى محدودية هذا النهج أمام تعقيدات الجغرافيا السياسية.
وفي حين يخوض ويتكوف معارك دولية بأدوات السوق، يواجه إيلون ماسك صراعات داخلية لا تقل شراسة. فخلال شهرين فقط، وجد نفسه في قلب أكثر من 132 قضية مرفوعة أمام المحاكم الأمريكية، بعضها يتعلق بمسائل دستورية تتعلق بحرية التعبير، وحقوق المستخدمين، وأمن المعلومات، في مؤشر واضح على الصراع المتزايد بين قطاع الأعمال والحكومة الفيدرالية.
ماسك، الذي يُنظر إليه على أنه أحد أكثر الشخصيات تأثيراً في العالم، يحاول فرض رؤية جديدة للدولة، حيث تُدار المؤسسات بمنطق الشركات، وتُتخذ القرارات بسرعة ودون البيروقراطية المعتادة. لكنه بذلك يتحدى صلب البنية الديمقراطية الأمريكية التي تقوم على توزيع السلطات وتوازنها. فهل يمكن تحويل الدولة إلى شركة؟ وهل يُمكن تطبيق منطق الكفاءة والربح في مجالات مثل الأمن القومي، السياسة الخارجية، أو العدالة الاجتماعية؟
الولايات المتحدة، في عهد ترامب الحالي، تحاول إعادة تعريف ذاتها. فبدلًا من الاعتماد على المؤسسات الكلاسيكية التي شكلت هيكل الحكم الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية، تتجه اليوم نحو "الشخصنة"، حيث الأفراد الأقوياء يحلون محل المنظومات. لكن هذا النمط يحمل في طياته مخاطر كبيرة. فالدولة الحديثة لا تدار فقط بالعقود والصفقات، بل تحتاج إلى رؤية استراتيجية متكاملة تأخذ بعين الاعتبار المصالح المتقاطعة والمعقدة داخليًا وخارجيًا.
في ظل سياسة الصفقات التي تنتهجها واشنطن، تراقب الصين الوضع بحذر. فمن ناحية، قد تستفيد من ضعف المؤسسات الأمريكية التقليدية لصالح نهج الصفقات المباشرة، ما يمنحها هامش مناورة أوسع في القضايا الدولية. لكن في الوقت ذاته، فإن النهج الأمريكي الجديد قد يزيد من حدة الحرب التجارية بين البلدين، خاصة مع توسع استثمارات ماسك في التكنولوجيا والبنية التحتية، التي تشكل تهديدًا مباشرًا لطموحات بكين في الهيمنة التكنولوجية.
أما أوروبا، فهي تواجه تحدياً كبيراً. فبينما اعتمدت لعقود على الدعم الأمريكي في الملفات الأمنية والاقتصادية، تجد نفسها الآن أمام إدارة أمريكية تهتم أكثر بالصفقات الفردية بدلًا من التحالفات الاستراتيجية طويلة الأمد. هذا قد يدفعها نحو تعزيز استقلالها الدفاعي، وربما البحث عن شراكات جديدة مع الصين وروسيا، ما يضعف مكانة حلف الناتو، ويعيد تشكيل خارطة التوازنات في القارة العجوز.
إن ما يحدث اليوم في السياسة الأمريكية ليس مجرد تغيير في الأشخاص، بل هو تغيير في الفلسفة نفسها. فبدلًا من أن تُدار الأزمات الدولية عبر رجال دبلوماسية مثل كيسنجر وبيكر، أصبحنا نراها تُدار بمنطق رجال الصفقات مثل ويتكوف وماسك. لكن التاريخ يُخبرنا أن السياسة لا يمكن اختزالها في معادلات الربح والخسارة. فبينما تنجح الصفقات في عالم المال، فإنها لا تكفي وحدها لضمان الأمن والاستقرار في عالم السياسة.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل هذا النهج الجديد قادر على تحقيق نتائج حقيقية؟ أم أنه مجرد مقدمة لفوضى عالمية أكبر؟ في ظل التحوّلات الجذرية التي نشهدها، يبقى المستقبل غامضاً، وتحليل الحاضر بات ضرورة لفهم القادم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق