جاري تحميل ... صحيفة الاخبار الجديدة

اعلانت

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

العرش فوق الدم




كتب رياض الفرطوسي

في العالم السرّي الذي تُدار فيه الأقدار من سراديب مظلمة، تتقاطع خطوط القتل باسم النظام، وتُصاغ العروش من أنقاض الأبرياء، فيما تُعلّق صكوك الغفران على مقاصل التاريخ. لم يكن الدين يوماً سوى وشاحٍ حريري على أكتاف المخابرات، ولا كانت السيادة أكثر من قناع يتبادل أدواره بين عصابات بالربطات الأنيقة، وشياطين بلحىً ناعمة.

حين أسس حلف الناتو منظمة غلاديو عام 1948، كانت "الديمقراطية الغربية" تُدشّن أول تنظيم إرهابي سري للدولة الحديثة. غلاديو، التي تعني "السيف"، لم تكن تحارب، بل تذبح. تُفجّر قطارات الأطفال في إيطاليا، وتنسف تجمعات العمال في ألمانيا، وتغتال أساتذة الجامعات في البرتغال، وتُلصق كل شيء بالقوى اليسارية. لم تكن حرباً ضد الإرهاب، بل هندسة للرعب، تُرسم بدقة على جغرافيا أوروبا بأكملها. قال أحد أفرادها قبيل موته: "كنا نقتل الأبرياء، فقط لنُجبرهم على اللجوء إلى دولتنا، لنُظهر لهم أن يسارهم عدوّ، وأن أمنهم لا يأتي إلا من أيدينا."

امتدت سكاكين السيف الأوروبي إلى جسد أمريكا اللاتينية تحت مسمى جديد: عملية كوندور. من الأرجنتين إلى تشيلي، ومن البرازيل إلى البيرو، كانت المخابرات الأمريكية تُنسّق مجازر صامتة مع ديكتاتوريات قارة متعبة. خمس قارات تقرأ الفاتحة على أكثر من ستين ألف معارض؛ يساري، شاعر، كاهن، طالبة، مزارعة، معلم، وطفلٌ لم يُكمل نُطقه الأول. كان الشاعر نيرودا يحتضر وهو يصرخ: "تعالوا، انظروا الدم في الشوارع"، لكن أحداً لم يأتِ. كانت كل العواصم مشغولة بخطابات الحرية، بينما كانت الرؤوس تُصفى بأجهزة أمريكية الصنع.


وبينما كان بابلو نيرودا يُدفن بصمت، كانت السلطة تُصعد قسيساً أرجنتينياً إلى قلب الحكاية. خورخي ماريو برغوليو، المولود في عمق الخراب، صار بعد عقود "البابا فرنسيس"، بابا السلام القادم من رحم الحرب. لكن السلام، كما يكتبه التاريخ، له وجوه كثيرة. من كتاب "عملية غلاديو" للمؤرخ بول ويليامز، يتضح أن هذا البابا لم يكن فقط شاهداً على مذابح الأرجنتين، بل كان أحد خيوطها المتصلة، وأن صعوده للكرسي البابوي لم يكن روحانياً بقدر ما كان توازناً دقيقاً بين قوى خفية: المافيا، السي آي أيه، والناتو.

الفاتيكان الذي يحتفي بالإنسان، كان، خلف الأبواب السميكة، يُبارك مذابح الكوندور. تحت عباءته قُتلت النساء، وفي دهاليزه اختفى المعارضون. لم يكن الصليب يومها إلا ظلًّا لسيفٍ آخر، سيفٍ يُبرق كلما خفَت صوت العدالة. إنها اللحظة التي تسقط فيها النبوة من على المذبح، وتتحوّل الصلوات إلى طقوس استخبارية.

من قال إن العالم يُحكم من القصور؟ إن هذا العالم يُحكم من الأسفل. من الطوابق السرية تحت الأمم المتحدة، من الممرات المظلمة في مقار الاستخبارات، من الغرف التي لا نعرف لها نوافذ، ولا نسمع منها سوى وقع الأقدام الثقيلة التي لا تمشي بل تجرّ التاريخ جراً نحو الفضيحة.

لقد مات البابا، نعم. لكن الحقيقة لم تمت. فالموت أحياناً لا يسدل الستار، بل يفتح الستارة على مسرحية طويلة تُعرض على الهواء مباشرة. وكل من بيده ريموت العالم يبدّل المشهد كما يشاء. نحن لسنا في عصر الإنكار، بل في زمن الوقاحة العلنية، حيث يجري كل شيء أمام عيوننا، ويُنكرونه رغم ذلك، كما أنكروا مذابح سابقة، وكما سينكرون مذابح قادمة.

أما نحن، فنخاف. نخاف من فتح الأعين، من اتساع المدارك، من رؤية هذا العالم كما هو: قبضة من نارٍ تخنق كل ما هو جميل. لكنّ الثمن الذي سندفعه مقابل هذا الخوف، سيكون أضعافاً مضاعفة. لأننا ندفعه الآن بالتقسيط. ولأنهم، حين ينتهون من قطع أعناق الحالمين، سيأتون لقطع أرزاق الصامتين.

فلتُرفع الكؤوس، إذاً، لا للوداع، بل للاعتراف. العالم في فضيحة. ونحن في قلبها. والعرش، ككل مرة، فوق الدم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

جميع الحقوق محفوظة© صحيفة الاخبار الجديدة